هل تُريد إطلاق شركة ناشئة؟ تجنّب أفكار الشّبكات الاجتماعية

في عالم ريادة الأعمال والتقنية، تحظى فكرة إنشاء شبكة اجتماعية جديدة بجاذبية خاصة لدى الكثير من المؤسسين الطموحين. تنبع هذه الجاذبية من قصص النجاح الكبرى التي حفرت أسماء شركات مثل “فيسبوك”، “تويتر”، “إنستغرام”، و”سناب شات” في ذاكرة البشرية كأمثلة للثراء السريع والنفوذ الرقمي غير المحدود. ومع ذلك، فإن محاولة تكرار هذا النموذج اليوم تعدّ من أكثر المسارات المحفوفة بالمخاطر وأقلها جدوى لمن يفكر في بناء شركة ناشئة ناجحة ومستدامة. وفي هذا المقال المطول، سيتم تفصيل الأسباب الجوهرية التي تجعل من الانخراط في أفكار الشبكات الاجتماعية خياراً سيئاً، وطرح بدائل أكثر واقعية وجدوى في بيئة ريادة الأعمال المعاصرة.

الإرث المُنهك للسوق: المنافسة في سوق مشبع

عند الحديث عن الشبكات الاجتماعية، لا بد من الاعتراف بالحقيقة التالية: السوق مشبع بشكل خانق. الشركات الكبرى مثل “ميتا” (فيسبوك وإنستغرام وواتساب)، و”تيك توك”، و”تويتر” (المعروف حالياً باسم X) تسيطر على المشهد العالمي، وتتمتع بإمكانات مالية وتقنية وبشرية هائلة، مما يجعل الدخول في هذا السوق يشبه الدخول في حلبة ملاكمة ضد عمالقة لا يُهزمون.

المنافسة في هذا الفضاء ليست فقط حول تقديم تجربة استخدام مميزة، بل تمتد إلى عمق خوارزميات التوصية، والبيانات الضخمة، والإعلانات الدقيقة، والبنية التحتية المتطورة، والتحليلات السلوكية المتقدمة. شركة ناشئة لا تملك موارد بمستوى هذه الشركات العملاقة ستواجه عوائق لا يمكن تجاوزها تقريباً.

قاعدة المستخدمين: الوصول إلى الكتلة الحرجة

تعد قاعدة المستخدمين الديناميكية والعريضة شرطاً جوهرياً لنجاح أي منصة اجتماعية. ومع ذلك، فإن الوصول إلى هذه الكتلة الحرجة من المستخدمين في البيئة الحالية أمر بالغ الصعوبة. التطبيقات الجديدة التي لا توفّر قيمة فريدة جداً، أو تجربة مستخدم مختلفة جوهرياً، تُهمل سريعاً من قبل المستخدمين الذين أصابهم التشبع من وفرة الخيارات.

المستخدم اليوم لا يبحث عن تطبيق جديد لمشاركة الصور أو كتابة منشورات قصيرة، بل يبحث عن فائدة واضحة أو ترفيه مميز أو حتى علاقة استخدام إنتاجية يمكنه الاعتماد عليها. معظم الشبكات الاجتماعية الجديدة تفشل في إقناع المستخدمين بالبقاء، مما يعرّضها لانخفاض متسارع في النشاط وبالتالي الانقراض الرقمي.

التحديات القانونية والتنظيمية

الشبكات الاجتماعية اليوم لا تعمل في فراغ قانوني. لقد أصبحت تحت أعين الجهات التنظيمية في معظم دول العالم بسبب قضايا الخصوصية، الأمان الرقمي، التضليل الإعلامي، والتلاعب بالمحتوى. منصة ناشئة جديدة ستواجه نفس التحديات منذ اليوم الأول، دون أن تمتلك الموارد القانونية أو الهندسية للتعامل مع مثل هذه الضغوط.

كمثال حي، تفرض اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبية (GDPR) متطلبات معقدة على كيفية جمع البيانات ومعالجتها وتخزينها. وهنالك قوانين أمريكية وآسيوية مشابهة. فامتلاك شبكة اجتماعية يعني ضمنياً أنك تدير بنية بيانات عالية الحساسية. وهذا الأمر ليس في صالح الشركات الناشئة، لا من حيث الميزانية، ولا من حيث الخبرة الفنية المتخصصة.

صعوبة تحقيق الأرباح

النموذج الربحي الأساسي لمعظم الشبكات الاجتماعية يعتمد على الإعلانات. لكنّ هذا النموذج يتطلب وصولاً واسعاً جداً إلى المستخدمين من أجل أن يكون مجدياً من الناحية المالية. في المراحل الأولى، لا تملك الشبكات الاجتماعية الوليدة قاعدة بيانات كافية لتحقيق دخل معتبر من الإعلانات، وبالتالي يعتمد المؤسسون على التمويل الخارجي لتمويل النمو.

ولكنّ المستثمرين أصبحوا أكثر حذراً بشأن ضخ أموالهم في مشاريع الشبكات الاجتماعية، بعد سلسلة من الإخفاقات التي شهدها السوق في العقد الماضي. حتى المستثمرين المغامرون (Venture Capitalists) يفضلون اليوم الابتعاد عن هذا القطاع، ويميلون إلى دعم مشاريع تكنولوجية لها تطبيقات عملية واضحة في ميادين مثل الذكاء الاصطناعي، الصحة الرقمية، الطاقة المتجددة، أو التعليم الإلكتروني.

إدمان النمو على حساب الجودة

تدفع طبيعة الشبكات الاجتماعية الجديدة مؤسسيها إلى التركيز على النمو العددي السريع بدلاً من بناء منتج مستقر وذي قيمة فعلية. هذا التوجه يخلق خللاً عميقاً في ثقافة الشركات الناشئة، حيث يصبح هاجس “عدد المستخدمين النشطين شهرياً” هو المعيار الوحيد للحكم على النجاح.

مثل هذه الثقافة لا تؤدي إلى تطوير منتج حقيقي، بل تخلق بيئة سامة من التقليد، نسخ الميزات من المنصات الأخرى، والتحايل على سلوك المستخدمين لتحقيق أرقام وقتية. النتيجة النهائية هي فشل المشروع في تحقيق تماسك داخلي أو ولاء مستدام من طرف المستخدمين.

صعوبة بناء هوية فريدة

واحدة من العقبات الكبرى التي تواجه من يسعى لتأسيس شبكة اجتماعية جديدة هي إيجاد هوية واضحة ومميزة للمنصة. في ظل تشابه الواجهات، الخوارزميات، ونماذج الاستخدام، يكاد يكون من المستحيل جذب انتباه المستخدمين دون طرح تجربة جديدة جذرياً ومبتكرة.

حتى المحاولات التي تستهدف فئات سكانية أو ديموغرافية محددة (مثل شبكات اجتماعية مخصصة للأطباء أو للموسيقيين أو للمراهقين) تفشل في كثير من الأحيان بسبب ضيق النطاق، وضعف الحافز للمستخدم للانتقال من المنصات العامة التي تقدم نفس التجربة إلى حدّ بعيد، ولكن بقاعدة أوسع.

أمثلة حيّة على الإخفاق

لم تكن المحاولات لإطلاق شبكات اجتماعية جديدة قليلة. في الواقع، ظهرت خلال العقد الماضي مئات المشاريع التي سعت إلى أن تكون “الفيسبوك الجديد” أو “إنستغرام بأخلاقيات جديدة” أو “تويتر بلا سمّية”، ولكنّ معظمها اختفى دون أثر يُذكر.

من بين هذه المشاريع نذكر “Ello”، التي انطلقت كشبكة اجتماعية بديلة خالية من الإعلانات، لكنها فشلت في الحفاظ على اهتمام المستخدمين بعد فترة قصيرة. أيضاً، مشروع “Peach” الذي قدّم تجربة تدوين اجتماعي بسيطة، لكنه فشل في النمو بعد لحظة انبهار قصيرة. حتى تطبيقات مدعومة بمليارات مثل +Google من شركة غوغل نفسها، لم تستطع مجاراة فيسبوك وانهارت.

الموارد الضائعة: الوقت والمال والجهد

تطوير شبكة اجتماعية جديدة يتطلب وقتاً طويلاً واستثماراً ضخماً في فرق التصميم، البرمجة، الحوسبة السحابية، حماية البيانات، التسويق، وغيرها. هذا يعني أن فشل المشروع لا يعني فقط خسارة مالية، بل خسارة موارد بشرية وأفكار ومجهودات كان يمكن أن تُستثمر في مشاريع أكثر جدوى وأثراً.

البدائل الواقعية والواعدة

بدلاً من التفكير في إطلاق شبكة اجتماعية جديدة، من الأفضل توجيه الطاقات نحو مجالات ناشئة ذات طلب حقيقي ونمو مستدام. من بين هذه المجالات:

1. تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتخصصة

برامج تعتمد على نماذج تعلم الآلة لمعالجة بيانات قطاع معين (كالطاقة، الزراعة، التمويل، الصحة). الطلب على حلول ذكاء اصطناعي يرتفع بشكل حاد في أسواق عديدة.

2. حلول التعليم الإلكتروني

تطبيقات تربط المتعلمين بالخبراء، أو منصات تعليمية تدعم اللغات المحلية أو مهارات محددة، تشكل سوقاً واعداً خصوصاً في مناطق لا تزال تعاني من ضعف في البنية التعليمية التقليدية.

3. الصحة الرقمية

التحول نحو الطب عن بُعد، والتشخيص المدعوم بالذكاء الاصطناعي، وتطبيقات إدارة الأمراض المزمنة، يشكل فرصة ضخمة أمام الرياديين في هذا المجال.

4. SaaS للشركات الصغيرة والمتوسطة

تقديم حلول برمجية كخدمة (Software as a Service) تُمكّن الشركات الصغيرة من إدارة عملياتها بشكل فعّال، مثل إدارة المخزون، الموارد البشرية، أو العلاقات مع العملاء، تمثل مجالاً واسعاً للابتكار.

جدول مقارنة: الشبكات الاجتماعية مقابل البدائل التقنية

الخلاصة

الاندفاع نحو إنشاء شبكة اجتماعية جديدة ليس فقط خياراً محفوفاً بالمخاطر، بل قد يكون في كثير من الأحيان دليلاً على قلة الواقعية في فهم ديناميكيات السوق الرقمي المعاصر. في بيئة أعمال تتطلب تركيزاً عالياً على القيمة الفعلية وحل المشكلات الواقعية، من الأفضل للمؤسسين الطموحين أن يبتعدوا عن أوهام تكرار نجاح “فيسبوك”، ويعيدوا توجيه طاقاتهم نحو مجالات تقنية أو خدمية حقيقية حيث يمكنهم بناء شركات ناشئة ذات قيمة واستدامة.

المراجع:

1. CB Insights – Top Reasons Startups Fail

2. TechCrunch – Why Social Networks Are Failing to Attract Users in 2023